التفريق بين فاطمة ومنصور عرف شرعي أم شرع عرفي

د.إلهام باجنيد

Image
حينما نمارس العنف الاجتماعي باسم الدين!

كنت أتابع البرنامج التلفزيوني اليوم السابع على قناة mbc الفضائية عند عرضه للقضية التي أثارت جدلاً كبيراً بين فئات المجتمع السعودي المختلفة، أقصد بها قضية الفرقة بين الزوجين لعدم تكافؤ النسب، ولاحظت اختلاف ضيوف الحلقة حول اعتبار القضية شرعية أم عرفية؟ وقبل الخوض في إبداء ملاحظاتي ورأيي حول هذه القضية من منطلق تخصصي في نظرية العرف وأثرها في الأحكام الشرعية، أود أن أقف عند بعض النقاط التي لم يلتفت إليها الضيوف الكرام في خضم خلافهم حول بعض الجزئيات...

تفنيد الآراء

أولاً: هم لم يكونوا مختلفين جوهريًّا برغم ما بدا بينهم من اختلاف لفظي، بمعنى أن الجميع كان مقرًّا أن ثمة خطأ، إلا أن منهم من كان جريئاً واتهم القضاء، ومنهم من تحرج في نسبته إليه، وهذا الأخير ناقض نفسه عندما حدّد الخطأ في مجانبة السير مع المصلحة التي تنظر إلى الأطفال والأسرة، ثم تمييعه نسبة ذلك إلى من همّش هذه المصلحة في مقابل ما لا يعدّ مصلحة أصلاً، وإن عُدّ كذلك فهي مصلحة جزئية لا تعتبر في مقابل مصالح كثيرة، ودرء مفاسد أكثر تم إغفالها ليكون بذلك قد أقر ضمناً بأن القضاء قد أقدم على هذا الخطأ عندما لم يراعِ تلك المصلحة، لننتهي إلى الاتفاق على وجود الخطأ، سواء اعتبرت القضية شرعية أم عرفية اجتماعية.

ثانياً: اختلاف وجهات النظر -الذي أعتبره لفظيا- وشدة الجدل حوله أثار غباراً حجب الرؤية عن تقليب منطلق الحكم الذي أصدر في هذه القضية، ألا وهو نص الحنابلة في كتبهم، على اعتبار قول من أحدث من الأولياء، وإعطائهم الحق في فسخ نكاح قد تم بضوابطه الشرعية، وعقد بموافقة الولي الأقرب ورضا المرأة، وهو قول لا يستند إلى نص لا قطعي ولا ظني، ولا ما يقرب أن يكون نصاً، كما أنه لا يوجد من العرف أو العقل ما يعضده؛ لأن العمل به يلزم منه عدم بقاء نكاح لازم ثابت على وجه الأرض؛ إذ إن كل من عنّ له أن يفرّق بين الزوجين من الأولياء إذا أجزنا له ذلك نكون قد أعناه عليه، وهذا غير مقبول شرعاً أو عقلاً أو عرفاً لإيصاله إلى عدم الاستقرار والأمان الأسري الذي قامت كثير من الأحكام الشرعية والعقلية والعرفية على حمايته.

ثالثاً: أتفق تماماً مع من يرى ضرورة تدخل الدولة لإلغاء قرار المحكمة بفسخ نكاح فاطمة من منصور طرفي القضية التي أثارت الجدل؛ تجنباً لأبعاد اجتماعية خطيرة لا أعتقد من أصدر هذا الحكم التفت إليها، ولن يدرك مداها وينتبه لها إلاّ عندما تكثر قضايا طلب التفريق بين زوجين تم زواجهما بموافقة شرعية، وكونا أسرة، وأنجبا أطفالاً لمجرد أن الأخ، أو العم، أو ابنه على اعتباره أيضاً أحد الأولياء كان معارضاً وقت وجود من تعتبر ولايته، وهذا أمر له آثاره الخطيرة التي سينشأ عنها ضحايا لا حصر لهم إن لم يكن المجتمع بأسره، أما مسألة أن في مثل هذه الزيجات ضررا على قريبات المرأة المطلوب فسخ نكاحها لإحجام الأكفاء عن التقدم للزواج بهن، فهو تقديم لدرء مفسدة محتملة في مقابل إيقاع مفسدة متحققة وقائمة، وأي عقل سليم يقول بذلك.

وقد كان الأستاذ المحرق ضيف الحلقة الفاضل قد اعتبر قياس الأستاذ الكريم عبد الرحمن اللاحم محامي الزوجين هذه القضية على قضايا الثأر قياسا مع الفارق على اعتبار أن القضية التي نحن بصددها ليس فيها إراقة دماء كما في قضايا الثأر.

وليسمح لي الأستاذ الفاضل بالاختلاف معه اختلافاً لا يفسد مبدأ الاحترام لكل صاحب رأي يصب في المصلحة، عندما أميل إلى كونه قياساً مطابقاً حتى من جهة تأجيجه للآثار السلبية؛ لأن فتح الباب لأمثال هذه القضايا وإعطاءها السند والدعم الشرعي يوجد مع الأيام حالة اجتماعية ونفسية قد تدفع إلى الجريمة من قتل، أو خطف، وغيره، وهو ما نغفل احتسابه اليوم ثأراً للنفس، والشريك، والأسرة، ومع افتراض عدم وقوع ما قدرناه فإن ثمة جريمة غير مبررة تقع على أطفال وأسرة يحكم عليهم بالضياع، وتعرضهم لنشأة قد لا تكون سوية، المجتمع بأسره هو الضحية الحقيقية لها، وهي تماماً كقضية الإرهاب عندما تساهلنا في بداياتها عن قمع الفكر الأحادي المتبني للعنف الاجتماعي باسم الدين، وصحونا فجأة على فظائع الكل يئن من ويلاتها، ويتجرع مرارتها.

فك الالتباس

بقي بعد هذه المحطات أن أقف عند القضية التي لعلني أزعم أنها القضية الأم في الضبابية التي تعتري كثيراً من القضايا المثيرة للجدل بين شرائح المجتمع المختلفة من مثقفين، ومتخصصين في الشريعة، والاجتماع، بل بين بسطاء الناس، ألا وهي الالتباس في هذه القضايا هل هي شرعية أم عرفية؟ ثمإن ثبت أنها عرفية يأتي خلاف آخر حولها هل القضايا العرفية ضابطة للشرع أم أن الشرع ضابط لها؟

ولعلني من خلال نظرٍ في كتب الفقه ترافقه دراسة لنظرية العرف قد وصلت لسبب هذه الربكة الشرعية الاجتماعية، التي ساندها انحباسها في زوايا باهتة لا يسلط الضوء عليها، وعدم اقتحامها بجرأة كافية قادرة على إزاحة الغمة ووضع الأمور في نصابها، ولعل القارئ الكريم يتسع صدره للنظر فيها متى أجملتها في النقاط التالية:

قبل كل شيء تتفق كلمة الفقهاء على اعتبار العرف دليلاً شرعيًّا، إلا أنه ليس دليلاً لإنشاء الأحكام إذ المنشئ للحكم الشرعي هو الكتاب والسنة، وهذا أمر يتطلب تحديداً لدور العرف بعد أن نعلم عدم اعتباره في تغيير محرم مقطوع بحرمته، أو واجب مقطوع بوجوبه، وإنما دوره يتحدد في أمرين:

أولهما: تفسير وبيان ما أُجمل في الشريعة من أحكام؛ كالاستعانة به في تحديد المهر الواجب لمن أُغفل تسميته لها عند العقد، أو بيان كيفية الاعتداد الواجب على المرأة، أو أسلوب معاملة مشروعة من بيع وشراء وإجارة وغير ذلك مما لا حصر له.

وهذا يوصلنا إلى أن العرف لا يوجب ولا يحرم، وإنما يحدد المراد من الواجب والمحرم الذي أُجمل في الشريعة قصداً دون تفصيل، وتُرك للبيان العرفي ليكون بمثابة الجسر الذي يقرب تطبيقه للناس والتعايش معه، وهو أحد الأمور الجوهرية التي تبرز رونقاً للشريعة رغماً عن كثير من محاولات تطبيقية عمياء عن مثل هذه المقاصد.

ثانياً: يأتي العرف كمرجّح في بعض الأمور الخلافية القائمة عليه، فيكون من حق كل فئة من فئات المجتمع فضلاً عن المجتمعات المختلفة أن ترجح منها ما يتفق مع خلفيتها الثقافية، والاجتماعية دون محاولة تسلط لتقديم عرفٍ على آخر، أو تمكين ثقافةٍ ما من تهميش جميع الثقافات في المسائل التي ترك الشارع الحكيم إخضاعها لنصوص قطعية، وجعلها تدور في قوالب ظنية تحتمل هذا وذاك إلاّ أن هناك شرطاً للعرف الذي يعدّ مرجحاً، وهو أن يتفق عليه أصحاب العقول والطباع السليمة، وهذا قيد له أهميته في إلغاء الأعراف الفاسدة التي لا تتفق مع الطباع السليمة، ولا مع الإنسانية، وعليه لا تتفق مع الشرع حتماً، وأعتبر العرف الذي قامت عليه القضية التي نحن بصددها من هذا النوع.

وما قد لا يلتفت إليه أن الأمر متسامح فيه، وأن هذا النوع من القضايا هو اجتماعي بالدرجة الأولى يخضع للنظر لا للاختلاف، والمشاحة، والعنت، وعبارة النظر تعني تقرير المصلحة وترجيحها، والالتفات إلى المقاصد وتغليبها، والعجب لقضايا أسست لتيسير أسباب الحياة تتحول إلى جذور فرقة، وتناحر، وجدلٍ عقيم، وأحياناً ارتفاع رؤوس فكر أحادي لا يلتفت إلى قواعد مقررة في نظرية العرف منها عدم السماح لعرفٍ بإلغاء عرف، ومنها أيضاً أن الأحكام العرفية قابلة للتجدد بتجدد الأعراف فلا مبرر للتردد أو الحرج من كل ما يجد، بل وضع الأحكام التي تتناسب معه في إطار رؤية واعية مدركة للمقاصد التي عمدت لإيجاد مساحات غير محددة جزماً كان بالإمكان الجزم بها لولا الاعتبار الحكيم لها في مسايرة طبيعة الحياة.

تطبيق حرفي

وفيما أظن تغليباً أن منشأ ما يحدث تنصيص الفقهاء على كثير من الأحكام العرفية في كتبهم على سبيل المثال، وإلاّ لتعارض مع ما قدمت عنهم، فأتى من بعدهم وأراد تطبيقها بحرفيتها دون النظر إلى القواعد التي تحكمها، أدى إلى توارث هذه القضايا على أنها شرعية وهي في حقيقتها عرفية، الفيصل فيها ما يقوله العرف السليم، مع قبولها للتغير بتغير الأزمان والأعراف تمخض عنه ولادة فئات تشددوا في كونها شرعية وضرورة تطبيقها كما وضعت فأخذوا بنا إلى ما نراه اليوم.

وتوصلني هذه الدراسة من ثنايا تلمس المقاصد والرؤية السليمة الصحيحة للقضايا العرفية والشرعية والتمييز بينهما أنه آن الأوان لأن يسند لكل فئة في المجتمع دورها الأجدى والأنفع له في أمثال هذه القضايا، ولا تكون الكلمة حكراً على أهل الشريعة، بل يفسح المجال للفئة صاحبة الخبرة أن تكون أصلاً في تقرير الحكم المبني على المصلحة إلى جانب الشرعيين، فإن كانت طبية كان لأهل الطب كلمة معتبرة، وإن كانت اجتماعية ساند خبراء علماء الاجتماع أهل التخصص الشرعي تجنباً لاحتكار الشرعيين البت في جميع القضايا، حتى تلك التي لا يكونون بالضرورة أهل النظر فيها، كما أعتقد أنه أصبح من الضروري نصب مساندين للقضاة من أصحاب التخصصات المختلفة في هذه القضايا تحديداً لإصدار أحكام لا نندهش بشدة عند وقوعها كما في قضية اليوم السابع!


نشر في جريدة عكاظ ، وموقع إسلام أون لاين نت

 

آخر تحديث
10/7/2008 10:16:28 PM