إلى روح شيخي

إلهام باجنيد *

توفي الشيخ الجليل إذاً؟
شعرت بها الآن وكأنما أصحو من صدمة اللااستيعاب لأدرك أن والدي وشيخي محمد أبو الأجفان قد انتقل إلى جوار ربه. كان واجب الوفاء لهذا الرمز العظيم يملي كتابة هذه الأسطر عقب وفاته رحمه الله، غير أن قلمي استعصى حائراً ماذا يخط وماذا يدع، وخشيت لشدة التصاق تلك الذكريات بنفسي أن أبدو عند حديثي عن شيخي أني أتحدث عن نفسي. وأنا هنا لن أعرض لسيرة الشيخ الفاضل رحمه الله ولمسيرته العلمية تدريساً، وتصنيفاً، وتحقيقاً فهو أشهر من نارٍ على علم، وإنما ألح فكري أن يسرح في فضاء الذكريات العبقة هناك في تلك الزاوية الصغيرة التي كانت تضمني ورفيقات الدراسات العليا حيث كنا نصغي ونتحاور مع ذلك العالم الجليل نتقلب بين علومٍ ومناحٍ شتى تضم الفقه، والأصول، والفلفسة، والتاريخ -تاريخ المغرب خاصة وجغرافيته التي رغماً عنا أحببناها وهمنا في أرجائها-، وعلم النفس، والتربية، وعلم الاجتماع، وواقع الحياة.
في اليوم المقرر لمحاضرته كانت الروح تسبق الخطى حرصاً على الوصول إلى تلك الحجرة قبله كي لا يفوتني شيء من عذوبة طرحه وتوجيهه، وتمضي الساعتان في سرعة عاكسة نظرية اعتياد الطلبة النظر إلى الساعة انتظاراً لانتهاء الوقت، فانظر إليها عاتبة تعجلها حرماننا ذلك المعين.
لا أعرف كيف كان يفعل ذلك؟ يعلم، ويربي، ويوجه، بأسلوبٍ سلسٍ لا يشعرك معه أنه يفعل، إلا أنك عند النظر إلى مرآة نفسك يخطفك طيفاً براقاً تكتشف أنه أضيف إليها.
كان يولّد إبداعات الروح بطريقة لا يمكن تصديقها يشعرك بأنك شيء عظيم، وأن ما تقوله ليس هملاً، ويستحث ويحفز أعماقك لمواصلة البحث والتحقيق والأمانة في التلقي بعيداً عن عبارات التكليف والفرض.
كان حريصاً دائماً على التقيد في النطق بالفصحى حتى في الكلام الجانبي الذي يخرج عن إطار الموضوع الرئيسي، فإذا أخطأت إحدانا قال عبارته الشهيرة: أعيدي ما قلت بالعربية.
كنا نضحك فيما بيننا همساً متى وقع الخطأ من المتحدثة انتظاراً لتلك العبارة، فننظر في عيني من قيلت لها فإذا بها تكاد تبكي ومع ذلك لم يكن أسلوبه محبطاً وإنما كان محفزاً لاقتناء العديد من كتب اللغة التي حسنت أداءنا نطقاً وكتابة.
لا أنسى ذلك اليوم الذي لجأت فيه إليه حائرة في معرفة أحد أعلام المذهب المالكي الذي كان رائداً فيه، فبدا لي كأنه لا يعرفه، وأخذ يقول لعله، ولعله، ولعله، فاضطررت إلى تعقب كتبٍ كثيرة إلى أن اهتديت إليه، وعند إخباره ـ بما بدا لي إنجازاً عظيما ًـ إذا به يفاجئني بسيل متدفق من معلومات لم أصل إليها حول تلك الشخصية، تلقنت يومها منهجاً خفياً في دفع المتلقي للوصول بنفسه إلى ما يبحث عنه إثراءً له خلال رحـلة البحث.
ولا أنسى عندما فُتح يوماً الحوار حول تربية الأطفال فإذا به يسألني عن منهج تعاملي مع ابني وابنتي، فقلت: إني أساوي بينهما تماماً حتى عند احتياج أحدهما لشيء أحضر للآخر في مقابله شيئاً، ولا أشعر ولدي بميزة تميزه عن أخته وإنما هما سواء، وأحرص على غرس قوة الشخصية في ابنتي والثقة بنفسها، فأدهشني عندما قال بعد إنصاته التام لما أقول: تذكري أنك تربينها للمجتمع لا لنفسك، فكأنه أزاح عصابةً عن عيني عندما لفت نظري لحقيقة لم أكن أنتبه إليها.
مع شيخي رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه قضينا ساعاتٍ وأياماً نتعلم كيف يمكن أن يجمع العدل، والحزم، والرفق، والعلم، والسمو، وسعة الصدر، والرقي، والفضل في إهابٍ واحدٍ.
عندما تستمع إليه ناثراً عقده المنتظم حول المذهب المالكي فقهاً وتصنيفاً يتراءى لك يشدو ويرفرف كفراشة تحلق في فضاء فسيح متقلبة من رحيق إلى آخر، ولا أعرف كيف تسللت تلك الروح المالكية لتسكن مكتبتي الخاصة التي لم تكن قبله تضم إلا القليل من كتبهم فأمست زاخرة بالكثير منها.
عندما هاتفت زوجته أم رافع أتقدم إليها بواجب العزاء أخذت تعزيني هي الأخرى فتبادلنا العزاء كأسرةٍ واحدة، كنت أقول في نفسي حينها: ليس نحن فقط من يُعزى فيه بل كل باحثٍ حرم بفقده أن يتربى على يديه.

* نشر في جريدة عكاظ



آخر تحديث
10/7/2008 10:22:45 PM